سورة النحل - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


قال ابن عباس وغيره من المفسرين: الإشارة ب {الذين من قبلهم} إلى نمرود الذي بنى صرحاً ليصعد فيه إلى السماء على زعمه، فلما أفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين على ما حكى النقاش، بعث الله عليه رمحاً فهدمته، وخر سقفه عليه وعلى أتباعه، وقيل: جبريل هدمه بجناحه وألقى أعلاه في البحر وانحقف من أسفله، وقالت فرقة أخرى: المراد ب {الذين من قبلهم} جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ونزلت فيه عقوبة من الله تعالى، وقوله على هذا {فأتى الله بنيانهم من القواعد} إلى آخر الآية، تمثيل وتشبيه، أي حالهم بحال من فعل به هذا، وقالت فرقة: المراد بقوله {فخر عليهم السقف من فوقهم} أي جاءهم العذاب من قبل السماء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ينحو إلى اللعن، ومعنى قوله {من فوقهم} رفع الاحتمال في قوله {فخر عليهم السقف} فإنك تقول انهدم على فلان بناؤه وهو ليس تحته، كما تقول: انفسد عليه متاعه، وقوله {من فوقهم} ألزم أنهم كانوا تحته. وقوله {فأتى} أي أتى أمر الله وسلطانه، وقرأ الجمهور {بنيانهم}، وقرأت فرقة {بنيتهم}، وقرأ جعفر بن محمد {بيتهم}، وقرأ الضحاك {بيوتهم}، وقرأ الجمهور {السقْف} بسكون القاف، وقرأت فرقة بضم القاف وهي لغة فيه، وقرأ الأعرج {السُّقُف} بضم السين والقاف، وقرأ مجاهد {السُّقْف} بضم السين وسكون القاف، وقوله {ثم يوم القيامة} الآية، ذكر الله تعالى في هذه الآية المتقدمة حال هؤلاء الماكرين في الدنيا، ثم ذكر في هذه حالهم في الآخرة وقوله {يخزيهم} لفظ يعم جميع المكاره التي تنزل بهم، وذلك كله راجع إلى إدخالهم النار، وهذا نظير قوله {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته} [آل عمران: 192]. وقوله: {أين شركائي} توبيخ لهم وأضافهم إلى نفسه في مخاطبة الكفار أي على زعمكم ودعواكم، قال أبو علي: وهذا كما قال الله تعالى حكاية {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49] وكما قال: {يا أيها الساحر ادع لنا ربك} [الزخرف: 49].
قال القاضي أبو محمد: والإضافات تترتب معقولة وملفوظاً بأَرَق سبب، وهذا كثير في كلامهم، ومنه قول الشاعر:
إذا قلت قدني قال تالله حلفة *** لتغني عني ذا إنائك أجمعا
فأضاف الإناء إلى حابسه، وقرأ البزي عن ابن كثير {شركاي} بقصر الشركاء، وقرأت فرقة {شركاءي} بالمد وياء ساكنة، و{تشاقون} معناه تحاربون وتحارجون، أي تكون في شق والحق في شق، وقرأ الجمهور {تشاقونَ} بفتح النون، وقرأ نافع وحده بكسر النون، ورويت عن الحسن بخلاف وضعف هذه القراءة أبو حاتم، وقد تقدم القول في مثله في الحجر في {تبشرون} [الحجر: 54]، وقرأت فرقة {تشاقونّي} بشد النون وياء بعدها، و{الذين أوتوا العلم} هم الملائكة فيما قال بعض المفسرين، وقال يحيى بن سلام: هم المؤمنون وهذا الخطاب منهم يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد: والصواب أن يعم جميع من آتاه الله علم ذلك من جميع من حضر الموقف من ملك أو إنسي، وغير ذلك، وباقي الآية بين.


{الذين} نعت للكافرين في قول أكثر المتأولين، ويحتمل أن يكون {الذين} مرتفعاً بالابتداء منقطعاً مما قبله، وخبره في قوله {فألقوا السلم} فزيدت الفاء في الخبر، وقد يجيء مثل هذا، و{الملائكة} يريد القابضين لأرواحهم، وقوله {ظالمي أنفسهم} حال، و{السلم} هنا الاستسلام، أي رموا بأيديهم وقالوا {ما كنا نعمل من سوء} فحذف قالوا لدلالة الظاهر عليه، قال الحسن: هي مواطن بمرة يقرون على أنفسهم كما قال: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} [الأنعام: 13] ومرة يجحدون كهذه الآية، ويحتمل قولهم: {ما كنا نعمل من سوء} وجهين، أحدهما أنهم كذبوا وقصدوا الكذب اعتصاماً منهم به، على نحو قولهم {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 2]، والآخر أنهم أخبروا عن أنفسهم بذلك على ظنهم أنهم لم يكونوا يعملون سوءاً، فأخبروا عن ظنهم بأنفسهم، وهو كذب في نفسه. و{عليم بما كنتم تعملون} وعيد وتهديد، وظاهر الآية أنها عامة في جميع الكفار، وإلقاؤهم السلم ضد مشافهتهم قبل، وقال عكرمة: نزلت في قوم من أهل مكة آمنوا بقلوبهم ولم يهاجروا فأخرجهم كفار مكة مكرهين إلى بدر، فقتلوا هنالك فنزلت فيهم هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وإنما اشتبهت عليه بالآية الأخرى التي نزلت في أولئك باتفاق من العلماء، وعلى هذا القول يحسن قطع {الذين} ورفعه بالابتداء فتأمله والقانون أن {بلى} تجيء بعد النفي ونعم تجيء بعد الإيجاب، وقد تجيء بعد التقرير، كقوله أليس كذا ونحوه، ولا تجيء بعد نفي سوى التقرير، وقرأ الجمهور {تتوفاهم} بالتاء فوق، وقرأ حمزة {يتوفاهم} بالياء وهي قراءة الأعمش، قال أبو زيد: أدغم أبو عمرو بن العلاء السلم ما، وقوله {فادخلوا} من كلام الذي يقول {بلى}، و{أبواب جهنم} مفضية إلى طبقاتها التي هي بعض على بعض، والأبواب كذلك باب على باب، و{خالدين} حال، واللام في قوله {فلبئس} لام التأكيد.
قال القاضي أبو محمد: وذكر سيبويه، رحمه الله، وهو إجماع النحويين قال: ما علمت أن لام التأكيد لا تدخل على الفعل الماضي وإنما تدخل عليه لام القسم لكن دخلت على بئس لما لم تتصرف أشبهت الأسماء وبعدت عن حال الفعل من جهة أنها لا تدخل على زمان، والمثوى موضع الإقامة، ونعم وبئس إنما تدخلان على معرف بالألف واللام أو مضاف إلى معرف بذلك، والمذموم هنا محذوف، تقديره بئس المثوى {مثوى المتكبرين}، والمتكبر هنا هو الذي أفضى به كبره إلى الكفر، وقوله {وقيل للذين اتقوا} الآية، لما وصف تعالى مقالة الكفار الذين قالوا أساطير الأولين، عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لكل فريق ما يستحق لتتباين المنازل بين الكفر والإيمان، و{ماذا} تحتمل ما ذكر في التي قبلها، وقولهم {خيراً} جواب بحسب السؤال، واختلف المتأولون في قوله تعالى {للذين أحسنوا} إلى آخر الآية، فقالت فرقة: هو ابتداء كلام من الله مقطوع مما قبله، لكنه بالمعنى وعد متصل بذكر إحسان المتقين في مقالتهم، وقالت فرقة: هو من كلام الذين {قالوا خيراً} وهو تفسير للخير الذي أنزل الله في الوحي على نبينا خبراً أن من أحسن في الدنيا بطاعة فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة بدخول الجنة، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة» وقد تقدم القول في إضافة الدار إلى الآخرة وباقي الآية بين.


{جنات عدن} يحتمل أن يرتفع على خبر ابتداء مضمر بتقدير هي جنات عدن، ويحتمل أن يرتفع بقوله {ولنعم دار المتقين} [النحل: 30] {جنات عدن} ويحتمل أن يكون التقدير، لهم جنات عدن، ويحتمل أن يكون {جنات} مبتدأ وخبره {يدخلونها}، وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن {جناتِ} بالنصب، وهذا نحو قولهم زيد ضربته، وقرأ جمهور الناس {يدخلونها}، وقرأ إسماعيل عن نافع {يُدخَلونها} بضم الياء وفتح الخاء، ولا يصح هذا عن نافع، ورويت عن أبي جعفر وشيبة بن نصاح، وقوله {تجري من تحتها الأنهار} في موضع الحال وباقي الآية بين. وقرأ الجمهور {تتوفاهم} بالتاء، وقرأ الأعمش {يتوفاهم} بالياء من تحت، وفي مصحف ابن مسعود {توفاهم} بتاء واحدة في الموضعين، و{طيبين} عبارة عن صلاح حالهم واستعدادهم للموت، وهذا بخلاف ما قال في الكفرة {ظالمي أنفسهم} [النحل: 28]، والطيب الذي لا خبث معه، ومنه قوله تعالى {طبتم فادخلوها خالدين} [الزمر: 73] وقول الملائكة: {سلام عليكم}، بشارة من الله تعالى، وفي هذا المعنى أحاديث صحاح يطول ذكرها وقوله {بما كنتم تعملون} أي بما كان في أعمالكم من تكسبكم، وهذا على التجوز، علق دخولهم الجنة بأعمالهم من حيث جعل الأعمال أمارة لإدخال العبد الجنة، ويعترض في هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة أحد بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» وهذه الآية ترد بالتأويل إلى معنى الحديث.
قال القاضي أبو محمد: ومن الرحمة والتغمد، أن يوفق الله العبد إلى أعمال برة، ومقصد الحديث نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8